الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
والمعنى لا حياة إلا هذه الحياة، ولأن إن النافية دخلت على هي التي في معنى الحياة الدالة على الجنس فنفتها، فوازنت لا التي نفت ما بعدها نفي الجنس.واعلم أن ذلك الرسول لما يئس من قبول الأكابر والأصاغر فزع إلى ربه وقال: {رَبّ انصرني بِمَا كَذَّبُونِ} وقد تقدم تفسيره فأجابه الله تعالى فيما سأل وقال: {عَمَّا قَلِيلٍ لَّيُصْبِحُنَّ نادمين} [المؤمنون: 40] والأقرب أن يكون المراد بأن يظهر لهم علامات الهلاك، فعند ذلك يحصل منهم الحسرة والندامة على ترك القبول، ويكون الوقت وقت إيمان اليأس فلا ينتفعون بالندامة، وبين تعالى الهلاك الذي أنزله عليهم بقوله: {فَأَخَذَتْهُمُ الصيحة بالحق} وذكروا في الصيحة وجوهًا: أحدها: أن جبريل عليه السلام صاح بهم، وكانت الصيحة عظيمة فماتوا عندها وثانيها: الصيحة هي الرجفة عن ابن عباس رضي الله عنهما وثالثها: الصيحة هي نفس العذاب والموت كما يقال فيمن يموت: دعي فأجاب عن الحسن ورابعها: أنه العذاب المصطلم، قال الشاعر: والأول أولى لأنه هو الحقيقة.وأما قوله: {بالحق} فمعناه أنه دمرهم بالعدل من قولك، فلان يقضي بالحق إذا كان عادلًا في قضاياه.وقال المفضل: بالحق أي بما لا يدفع، كقوله: {وَجَاءتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقّ} [ق: 19].أما قوله: {فجعلناهم غُثَاء} فالغثاء حميل السيل مما بلي واسود من الورق والعيدان، ومنه قوله تعالى: {فَجَعَلَهُ غُثَاء أحوى}.وأما قوله تعالى: {فَبُعْدًا لّلْقَوْمِ الظالمين}.ففيه مسألتان:المسألة الأولى:قوله: {بُعْدًا} وسحقًا ودمرًا ونحوها مصادر موضوعة مواضع أفعالها، وهي من جملة المصادر التي قال سيبويه نصبت بأفعال لا يستعمل إظهارها ومعنى بعدًا بعدوا، أي هلكوا يقال بعد بعدًا وبعدًا بفتح العين نحو رشد رشدًا ورشدًا بفتح الشين، والله أعلم.المسألة الثانية:قوله: {بُعْدًا} بمنزلة اللعن الذي هو التبعيد من الخير، والله تعالى ذكر ذلك على وجه الاستخفاف والإهانة لهم، وقد نزل بهم العذاب دالًا بذلك على أن الذي ينزل بهم في الآخرة من البعد من النعيم والثواب أعظم مما حل بهم حالًا ليكون ذلك عبرة لمن يجيء بعدهم. اهـ.
وأحيانًا يكون الفاعل محذوفًا وذلك عند اللام كهذه الآية، التقدير بعد الوجود لما توعدون، ومن حيث كانت هذه اللفظة بمعنى الفعل أشبهت الحروف مثل صه وغيرها، فلذلك بنيت على الفتح، وهذه قراءة الجماعة بفتح التاء وهي مفرد سمي به الفعل في الخبر، أي بعد، كما أَن شتان اسم افترق وعرف تسمية الفعل أَن يكون في الأمر كصه وحسن، وقرأ أبو جعفرٍ {هيهاتِ هيهاتِ} بكسر التاء غير منونة، وقرأها عيسى بن عمر وأَبو حيوة بخلاف عنه {هيهاتٍ هيهاتٍ} بتاء مكسورة منونة وهي على هاتين القراءتين عند سيبويه جمع هيهات وكان حقها أَن تكون هيهاتي إلا أن ضعفها لم يقتض إظهار الياء فقال سيبويه رحمه الله هي مثل بيضات أَراد في أَنها جمع فظن بعض النحاة أَنه أَراد في اتفاق المفرد فقال واحد هيهات هيهة وليس كما قال، وتنوين عيسى على إرادة التنكير وترك التعريف، وقرأ عيسى الهمداني {هيهاتْ} بتاء ساكنة وهي على هذا الجماعة لا مفرد، وقرأها كذلك الأعرج، ورويت عن أَبي عمرو وقرأ أبو حيوة {هيهاتٌ} بتاء مرفوعة منونة وهذا على أَنه اسم معرب مستقل وخبره {توعدون} أي البعد لوعدكم، كما تقول النجح لسعيكم، وروي عن أَبي حيوة {هيهاتُ} بالرفع دون تنوين، وقرأ خالد بن إلياس {هيهاتًا هيهاتًا} بالنصب والتنوين والوقف على {هيهات} من حيث هي مبنية بالهاء، ومن قرأ بكسر التاء وقف بالتاء، وفي اللفظة لغات هيها وهيهات وهيهان وأيهات وهيهات وهيهاتًا وهيهاء قال رؤبة، {هيهاه} من منخرق {هيهاوه}، وقرأ ابن أَبي عبلة {هيهات هيهات ما توعدون} بغير لام، وقولهم {إن هي إلا حياتنا الدنيا} أرادوا أنه لا وجود لنا غير هذا الوجود، وإنما تموت منا طائفة فتذهب وتجيء طائفة جديدة، وهذا كفر الدهرية، و{بمؤمنين} معناه بمصدقين، ثم دعا عليهم نبيهم وطلب عقوبتهم على تكذيبهم.{قَالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ (40)}.المعنى {قال} الله لهذا النبي الداعي {عما قليل} يندم قومك على كفرهم حين لا ينفعهم الندم، ومن ذكر {الصيحة} ذهب الطبري إلى أَنهم قوم ثمود، وقوله: {بالحق} معناه بما استحقوا من أَفعالهم وبما حق منا في عقوبتهم، و{الغثاء} ما يحمله السيل من زبده ومعتاده الذي لا ينتفع به فيشبه كل هامد وتالف بذلك و{بعدًا} منصوب بفعل مضمر متروك إظهاره ثم أخبر تعالى عن أنه أنشأ بعد هؤلاء أممًا كثيرة كل أمة بأجل في كتاب لا تتعداه في وجودها وعند موتها. اهـ.
قال الزجاج: فأما الفتح، فالوقف فيه بالهاء، تقول: هيهاه إِذا فتحت ووقفت بعد الفتح، فإذا كسرتَ ووقفتَ على التاء كنتَ ممن ينوِّن في الوصل، أو كنتَ ممن لا ينوِّن.وتأويل هيهات: البُعد لِما توعَدون.وإِذا قلتَ: هيهات ما قلت، فمعناه: بعيد ما قلت.وإِذا قلتَ: هيهات لما قلت، فمعناه: البعد لِما قلت.ويقال: أيهات في معنى هيهات، وأنشدوا: قال أبو عمرو بن العلاء: إِذا وقفت على هيهات فقل: هيهاه.وقال الفراء: الكسائي يختار الوقف بالهاء، وأنا اختار التاء.قوله تعالى: {لِمَا تُوعَدُون} قرأ ابن مسعود، وابن أبي عبلة: ما تُوعَدُون بغير لام.قال المفسرون: استبعد القومُ بعثهم بعد الموت إِغفالًا منهم للتفكُّر في بدوِّ أمرهم وقُدرة الله على إِيجادهم، وأرادوا بهذا الاستبعاد أنه لا يكون أبدًا، {إِن هي إِلا حياتنا الدُّنيا} يعنون: ما الحياة إِلا ما نحن فيه، وليس بعد الموت حياة.فإن قيل: كيف قالوا: {نموت ونحيا} وهم لا يقرُّون بالبعث؟فعنه ثلاثة أجوبة ذكرها الزجاج.أحدها: نموت ويحيا أولادنا، فكأنهم قالوا: يموت قوم ويحيا قوم.والثاني: نحيا ونموت، لأن الواو للجمع، لا للترتيب.والثالث: أبتداؤنا موات في أصل الخلقة، ثم نحيا، ثم نموت.قوله تعالى: {إِنْ هو} يعنون الرسول.وقد سبق تفسير ما بعد هذا [هود: 7، النحل: 38] إِلى قوله: {قال عَمَّا قليل} قال الزجاج: معناه: عن قليل، و ما زائدة بمعنى التوكيد.قوله تعالى: {ليُصْبِحُنَّ نادمين} أي: على كفرهم، {فأخذتْهم الصَّيحة بالحق} أي: باستحقاقهم العذاب بكفرهم.قال المفسرون: صاح بهم جبريل صيحة رجفت لها الأرض من تحتهم، فصاروا لشدَّتها غُثاءً.قال أبو عبيدة: الغُثاء: ما أشبه الزَّبد وما ارتفع على السيل ونحو ذلك مما لا يُنتفَع به في شيء.وقال ابن قتيبة: المعنى: فجعلناهم هَلْكَى كالغُثاء، وهو ما علا السَّيل من الزَّبد والقَمش، لأنه يذهب ويتفرَّق.وقال الزجاج: الغُثاء: الهالك والبالي من ورق الشجر الذي إِذا جرى السَّيل رأيته مخالطًا زَبَده.وما بعد هذا قد سبق شرحه [الحجر: 5]. اهـ.
|